علم الاطفال و هم يلعبون







   بقلم السيد: وحيد رحيم متفقد المدارس الاعدادية
و المعاهد في مادة التربية المدنية

مقدمة : ( اللعب : من حاجة إنسانية إلى مقاربة تربوية 

 

 

  يقول الفيلسوف والمربي الفرنسي المعروف " جان جاك روسوJ.J.Rousseau   في كتابه " أميل "  ( Emile )  :" أيها الناس ، كونوا إنسانيين .. أحبوا الطفولة   

  وشجعوا ألعابها ولذائذها البريئة... "

أما " شيللر" Max Scheler فيجزم بأن " الإنسان لا يكون إنسانا إلا حين يلعب " .[1]

وفي تراثنا الإسلامي الحنيف قول مأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء فيه : " علموا الأطفال وهم يلعبون " .[2]   

وقديما اعترف " أفلاطون " ( 428/347 ق.م ) بالقيمة العلمية للعب ودوره في تحقيق التعلم وثبَت ذلك في كتابه الشهير " القوانين " Les lois) ( ، وهي نفس الفكرة التي اقتنع بها عدد كبير من الفلاسفة والتربويين اللاحقين أمثال " كومينيوس" Comenius  [3]  و" بستالوزي"

Pestalozzi  [4] وفروبال F.Frobel [5]   و " نيتشة " F.Nietzche  [6]  الذي أقر بالبعد الإيجابي للعب مصرحا في كتابه " هكذا حدث زردشته " أن " نضج الإنسان يكون بالعودة إلى الجدية التي كان يمارسها في لعبه الطفولي ..."

أما  الفيلسوف الألماني " إيمانويل كانط " E .kant فقد ذهب إلى أبعد من ذلك ، معتبرا أن   " اللعب كالفن " [7]  وهو لم يحد بذلك عن رأي " سبنسر " [8]  H. Spencer  الذي اعتبره      " أصل كل فن ".                                                                                       وسواء اعتبرنا اللعب لذة علينا إشباعها أو بعدا إنسانيا من واجبنا إثباته أو قيمة علمية علينا تأكيدها أو فنا نبيلا حري بنا ممارسته ، فإنه يبدو بكل هذه المعاني بعيدا جدا عن المعنى المتداول الذي أحيط به مفهوم اللعب باعتباره مضيعة للوقت ونشاطا إنسانيا بعيدا عن كل جدية و وقار. كما أنه يبدو كذلك بعيدا عن ذلك الموقف الذي تبناه شق آخر من المفكرين والفلاسفة وحتى المربين الذين حقروا من شأن اللعب ورأوا فيه مجرد مزاح وهزل ،

على غرار الفيلسوف والمربي الفرنسي " ألان" Alain [9] الذي  يقر بالدور السلبي للعب ويجعل منه نشاطا غير ذي جدوى إذ يقول : " إن الذي يدفع الطفل ويحركه ليس شغفه باللعب إذ هو يتخلص في كل لحظة من حب اللعب وسرعان ما يمر من حالة إلى نقيضها .. واللعب المتواصل يترك دائما في نفس الطفل الندم والقلق ..."

   الحقيقة أن مثل هذا الاختلاف في الحكم على اللعب لا يعد غريبا إذا علمنا عدم اتفاق المنظرين في الحكم على الطفولة نفسها إذ يذهب شق منهم إلى الاعتراف بها وتمجيدها واعتبارها مرحلة عمرية قائمة بذاتها لا بد من معرفة خصائصها والاستمتاع بها [10]  بينما يذهب الشق الآخر إلى تجاهلها وعدم الاعتراف بها كمرحلة متميزة من حياة الفرد خاصة وأن مفهوم الطفولة بمعناه العصري لم يظهر تاريخيا إلا في فترة متقدمة نسبيا . [11] 

يقول " فيليب أرياس "  Ph. Aries  [12]في كتابه " الطفل والحياة العائلية في ظل النظام القديم"  (1960 ( ( L’enfant et la vie familiale sous l’ancien régime ) : " إن المجتمعات التقليدية لم تكن تتصور الطفولة بوضوح ، ذلك أن فترتها كانت تقتصر على المرحلة التي لم يكن فيها المولود الجديد قادرا على الاكتفاء . فإذا ما توصل إلى هذه القدرة فإنه يندمج في عالم الكهول ليشاركهم أعمالهم ، فيمر بسرعة من مرحلة الوليد إلى مرحلة الكهل الصغير..." [13]

وتاريخيا ظلت كلمة « اللعب » لعقود طويلة من المسائل المسكوت عنها وقلما يقع تناولها إلا عرضا ولذلك علينا الانتظار إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر لنشهد بداية تبلور النظريات الحديثة الخاصة بظاهرة اللعب في جل الاختصاصات تقريبا .

ففي المجال الفلسفي كتب " فنك " تلميذ " هوسرل " E. Husserl [14]  كتابا عن " انطولوجيا اللعب "  أما " كارل جروس " Karl Gross  أستاذ الفلسفة في بازل بسويسرا  فقد ربط بين قدرة الإنسان على التكيف مع البيئة وذلك المران الذي يكتسبه من خلال اللعب والمحاكاة .

وفي مجال علم النفس التربوي جاء " ج. ستانلي هول " Stanley hull  [15] بما يعرف         «  بالنظرية التلخيصية »  التي مفادها أن الطفل يقوم أثناء لعبه بإعادة تبني اهتمامات الإنسان البدائي [16] .

ومن جانبه بحث " بياجي " Jean Piaget [17] في العلاقة بين اللعب والذكاء واعتبر اللعب عبارة عن تمثل(Assimilation) للأشياء والمعلومات بدونه لا تتم عملية المواءمة                ( Accommodation ) والمحاكاة وبالتالي لا ينمو أي نشاط ذهني للإنسان .[18]

أما في مجال التحليل النفسي فقد وقع الإقرار بإمكانية استخدام اللعب كطريقة علاجية لبعض الأمراض النفسية والعقلية للأطفال . وقد ذهب " فرويد " Sigmund Freud [19] إلى القول بأن رغبات وصراعات كل مرحلة من مراحل النمو تنعكس بالضرورة في ألعاب الأطفال وأن هذه الأخيرة تتحكم فيها مشاعر الشخص وانفعالاته سواء كان على وعي بها أم لم يكن .

ومن مظاهر هذا التحكم تعمد الطفل تعديل الأحداث التي تمر به في الواقع أثناء لعبه حتى تتلاءم مع رغباته ، فالأطفال الذين يكرهون تعاطي الأدوية كراهية كبيرة مثلا يقومون دوما بتجريعها للعبهم ودماهم .[20]

وفي السنوات الأخيرة وتزامنا مع التقدم العلمي والتكنولوجي الهائلين وبالنظر إلى المكانة التي ما فتئت تحظى بها الطفولة في جل المجتمعات تقريبا – وإن كان ذلك بنسب متفاوتة – زاد الاهتمام بموضوع اللعب عموما وبعلاقته بظاهرة التعلم على وجه الخصوص ، وقد تجسم ذلك من خلال عدد كبير من الأبحاث والدراسات التي ركزت على اللعب لا كظاهرة إنسانية لا غنى عنها فحسب بل كمقاربة تربوية يمكن الاعتماد عليها في عملية التدريس واعتمادها في بناء مختلف التعلمات مثلها مثل بقية المقاربات الحديثة الأخرى . [21]

І –  في ماهية اللعب :

جاء في القاموس الجديد للطلاب [22] أن اللعب مصدر من فعل لعب يلعب لعبا وتلعابا بمعنى مزح ولها ، أما لسان العرب "لابن المنظور " [23] فقد عرف اللعب بأنه ضد الجد .

وذلك على العكس تماما من القاموس التربوي [24] الذي اعتبر اللعب " عملا جادا " حتى وإن تم من خلال أنشطة يرفضها الكبار غالبا ...

وبعيدا عن المعنى اللغوي يعرَف اللعب بأنه " نشاط موجه يقوم به الأطفال لتنمية سلوكهم وقدراتهم العقلية والجسمية والوجدانية وهو يحقق في نفس الوقت المتعة والتسلية ."

وهذه المتعة ليست مجرد نزوة كما يعتقد البعض بل هي نابعة من حاجة (un besoin)

بشرية وتستجيب لضرورة معينة قد نعلمها وقد نجهلها ولهذا نجد " بياجي " يقول :« اللعب تعبير عن حاجة ، حاجة الطفل للمتعة » .

أما في إطار تعليمي / تعلمي فيفيد أسلوب التعلم باللعب استغلال مختلف الأنشطة والألعاب ووسائل التسلية والترفيه في اكتساب التلميذ للمعلومة وبنائه لمعارفه الذاتية توسيعا لآفاقه العلمية والدراسية وتهيئة له لمختلف الأدوار التي تنتظره مستقبلا .

من هذا المنطلق يمكن اعتبار اللعب عبارة عن " وسيط تربوي " intermédiaire)) يعمل على تشكيل شخصية المتعلم بأبعادها المختلفة ولذلك نميل إلى الجزم بأن الطفل الذي يحرم من اللعب في صغره سيعمل على تعويضه ما أمكن في الكبر ، ومن هنا فإننا لا نستغرب تصرفات بعض الكهول وميلهم الكبير إلى اللهو والمزاح والدعابة إلى حد تقمص شخصية الطفل في كثير من المواقف سواء تم ذلك مع زملائهم وأصدقائهم أو حتى في حياتهم الزوجية مع قرنائهم وفي أخص خصوصياتهم أحيانا .

وهذا الاستنتاج الأخير بات معلوما حتى في مجالات أخرى كمجال الاتصال communication) la) مثلا ، فمدرسة التحليل التبادلي (l’école de l’analyse transactionnelle) [25] بزعامة " إ. بارن " Erich Bern عملت على فهم الفعل الاتصالي لبني البشر وتأويله انطلاقا من عدة أدوات من بينها حالات الشخصية التي يتقمصها الإنسان وهي ثلاثة كما هو معلوم : شخصية الطفل وشخصية الكهل وشخصية الولي .

والأكيد أن من يرغب في تقمص شخصية الطفل وباستمرار هو من اشتدت حاجته أكثر لفترة الطفولة لسبب من الأسباب ، لعل أولها حرمانه في ما مضى من معايشتها والاستمتاع بلعبها وألعابها .

من جهة أخرى فإن الحديث عن ماهية اللعب يجرنا إلى طرح تساؤلين اثنين لطالما خاض فيهما المختصون من رجالات فكر وتربية :

التساؤل الأول يمكن أن نلخصه فيما يلي : هل أن اللعب جد أم هزل ؟

أما التساؤل الثاني فهو هل يمكن اعتبار اللعب مجرد تنفيس عن طاقة زائدة في الإنسان كما يعتقد البعض؟

1)- اللعب بين الجد والهزل :

إذا كانت جل التعاريف اللغوية للعب تحيله إلى معاني الهزل واللهو فإن عددا كبيرا من الفلاسفة أمثال " كلاباراد " Edouard Claparède [26] قد ربطه بنقيض ذلك أي جعله مقترنا بمفهوم الجد ، وهذه الجدية قلما يسمو إليها الفرد في مراحل حياته الأخرى على حد تعبير الفيلسوف الألماني " نيتشة ".

وهذا الموقف قد يبدو وجيها لا من الزاوية الفلسفية فحسب بل حتى من زاوية نفسية - تربوية لأن الطفل يبدي كثيرا من الانضباط عندما يمارس ألعابه ويغرق في تقمص الأدوار ويمعن في تقليد الكبار إلى درجة قد تثير دهشتنا وما علينا للتأكد من ذلك سوى تأمل صغارنا وهم يلعبون . والحقيقة أنه لو تساءلنا عن الدوافع التي تحرك الطفل وتدفعه إلى مثل هذا السلوك لوجدناها أكثر جدية وقابلية للاحترام والتقدير .

2)- اللعب والطاقة الزائدة :

كثيرا ما تساءل الفلاسفة والمفكرون عن طبيعة اللعب وهل هو مجرد تنفيس عن " طاقة زائدة " أو " طاقة كامنة " ؟

وفعلا ذهب في هذا الاتجاه الفيلسوف الألماني " فريدريك فون شالر"  Shaller ومن بعده الفيلسوف الانجليزي " هربرت سبنسر " وحاولا جاهدين تفسير ميل الأطفال عموما والمتعلمين خصوصا إلى اللعب انطلاقا من وجود نوع من الطاقة ( énergie) الإضافية التي قد لا تتوفر لدى الكهل .

ولكن هذا الاتجاه لم يصمد طويلا وفندته مختلف الدراسات والتجارب التي أجريت على الإنسان وحتى الحيوان ، فقد يكون الطفل منهكا جدا وهذا يعني فقدانه لتلك الطاقة الزائدة ومع ذلك تراه يهرول في اتجاه لعبته المفضلة وقد يكون محتاجا إلى النوم ومع هذا يصر على إحضار لعبته إلى جانبه  قبل أن ينام ، والأمثلة على ذلك كثيرة وهذا يعزز القول بأن اللعب قد تحركه الحاجة أو ما أسميناها سابقا " الرغبة في تحقيق المتعة " أكثر مما قد تحركه الطاقة مهما كان حجمها ومهما كانت قوتها .

 

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :